أصدر الأديب المغربي موحى صواك مجموعة قصصية جديدة وسمها بـ «طنجرات الضغط تفضح» (1)، بعد مسيرة طويلة مع الرواية والشعر والمحكيات... وثلاث مجموعات قصصية أخرى، هي: «عام الكلبة» (1979) و"اللاعبون» (2000) و"السفر الكبير"..." (2001
تشتمل المجموعة الجديدة على عشرين قصة قصيرة هي:
طنجرات الضغط تفضح ـ التدريب ـ العامل (الوالي) ـ المترو الأخير ـ الفريق الوطني ـ الهدية ـ الباب ـ القاتل ـ النادل ـ سيارة أجرة ـ صداقة متينة ـ والد الجندي ـ ثورة المومسات ـ الشاطئ ـ ابن السبيل ـ الكلب ـ المريض ـ الأمير والطبيب الجراح ـ اختفاء ـ دركي بوذنيب .
تقع المجموعة في 98 صفحة من القطع المتوسط، نشر: مرسم، الطبعة الأولى 2011، مطبعة: أبو رقراق، الغلاف: آمال بشير (مجموعة مرسم).
نقرأ على ظهر الغلاف هذه الإضاءة:
«تصف هذه المجموعة، التي تحمل عنوان أول قصة (بها)، آلام وأفراح أشخاص يقاومون أوهامهم . إذ هناك مجموعة كبيرة من «الدونكشوطات» يواجهون طواحين رياح في أزقة مدن المغرب وقراه . ويعمل كل واحد، وقد تـُركَ لمصيره، على تخليص نفسه، حسب مقدرته، حين تـَترك له حماقاته أو حماقات الآخرين، منفذا للانفلات: معلم يترك تلاميذه ليتابع مباراة في كرة القدم، مومس تريد أن تغير من وضعها، أو امرأة تسرق طفلا، وقصص أخرى غريبة من الحياة اليومية".
ترسم قصص المجموعة، إذن، بعض مظاهر الوضع الإنساني في بلدات الهامش المغربي على الخصوص، كثيمات أساسية للقصص أو كتلوينات في طياتها: البطالة، الأنانية وسطوة المال والنفوذ والمصلحة الخاصة، الرشوة والمحسوبية، الأمية، الدعارة، خرق القانون، وضعية المرأة، جرائم الشرف، النفاق الاجتماعي، تملق الرؤساء واحتقار المرؤوسين.. بعض التفاصيل الدقيقة التي تفضح بعض التصرفات والسلوكات (الشراهة، التدين الشكلي، استغلال النفوذ حتى في بعض الأمور البسيطة والتفاصيل الصغيرة، متاعب الموظفين الإدارية والصحية، عدم احترام الآخر، مَشاهد المعاكسة والعِراك، الغش في الامتحان، علاقة بعض الآباء بأبنائهم...).
ترسم القصص هذه الأدواء وغيرَها بلغة واضحة سهلة (ممتنعة) يتفاعل معها القارئ العادي ويتجاوب مع الأحداث والشخصيات ويستمتع بأسلوب الكاتب الذي يميل إلى السخرية المرحة أحيانا، والسوداء أحيانا أخرى.
يعتمد الكاتب أيضا الأسلوب الكاريكاتوري المبالِغ في إظهار بعض العيوب أو العلاقات غير السوية . كما يعتمد المفارقة أحيانا، كطريقة للفضح (مثال: أستاذ التربية على المواطنة الذي يترك تلاميذه ليتابع مباراة رياضية ويتهم المدرب في وطنيته).
يتميز أسلوب الكاتب أيضا بواقعيته المفرطة تارة، وبتخييله المجنح تارة أخرى، كما أنه في الكثير من الأحيان يترك نهايات القصص مفتوحة على احتمالات عدة، ويأخذ بأنفاس القارئ أحيانا أخرى، إلى آخر سطر أو كلمة ليحل عقدة القصة.
من الأضمومة، نعرِّب هذه القصة: «صداقة متينة»:
وأخيرا حصل قدور على تعيينه في مدينة: ط.
لقد انتظر طويلا، هذا المنصب، واجتاز عددا كبيرا من المباريات، حتى إنه كان سيسعد بالعمل ولو في الجحيم، لو سنحت له الفرصة حقا . ذهب ليعلن النبأ السعيد، ويودع أفراد أسرته . هنأه الجميع، وتمنوا له حظا سعيدا . بعض الموظفين القدامى، تحدثوا له عن تجاربهم في الإدارة، وبعضهم الآخر نصحوه بالاحتراس والحزم في مهامه الجديدة .
في المساء، عشية يوم سفره، ضيَّف بعض أصدقائه وأفراد دفعته من غير المحظوظين الذين يواصلون عطالتهم، بتضحية وشجاعة، في مقاهي المدينة الصغيرة . قدم لهم الشاي والحلويات، احتفاء بتعيينه. لقد كان هناك كل أولئك الأصدقاء الذين قاسَمَهم ساعات السأم الطويلة، بلا نقود ولا سجائر، وبلا قهوة ولا جرائد، شهورا طويلة في انتظار جواب وزارة، أو نتائج غير مؤكدة لمباراة مشكوك فيها... كل ذلك، بالنسبة لقدور، صار من الماضي..
في آخر الأمسية، سلـَّم عزوز، الذي كان له ابن عم، مفتشٌ للشرطة بمدينة: ط، قبل انصرافه، عنوانَ هذا الأخير لقدور، وطلب منه أن يذهب لرؤيته في حالة وقوع مشكل ما فقد يستطيع مساعدته، إذا علم أنه أتى بتوصية من عزوز.
افترق الأصدقاء، وتناول كل واحد خيط كبته، من جديد، مواصلا فكها، مثلما يدفع الجعل كرتـَه أمامه.
وفي يوم الغد، ركب قدور الحافلة التي عبرت طول البلاد لبلوغ مدينة ط . وصلها في المساء، ثم أخذ فورا يبحث عن غرفة فندق، يقضي فيها ليلته الأولى، ولكن دون جدوى . فكل الفنادق كانت تعلن عن امتلائها . وكان قدور يحس الألم في قدميه، بسبب حذائه الجديد، كما أن حقيبته الثقيلة قد جرّحت يديه وأوجعت كتفيه . الحرارة الرطبة للساحل جعلت قميصه يلتصق بظهره، وشعرَه برأسه . وقد كان على وشك أن يصاب بالهلع، حين تذكر فجأة اسم مفتش الشرطة حسن، ابن عم صديقه عزوز.
وضع قدور حقيبته على الأرض، وتنفس عميقا، فأحس بالراحة . نادى على سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يوصله إلى مفوضية الشرطة . نظر السائق إلى قدور من خلال مرآة السيارة، وقال في نفسه: هذا شرطي جديد معين في مدينة ط.
توقفت سيارة الأجرة . فهبط قدور ودفع ثمن الرحلة، فلم يتقاضَ السائق إلا مبلغ التعريفة المحددة . بعد ذلك، جر قدور حقيبته على الأرضية إلى بهو الاستقبال بمركز الشرطة . كان هناك أشخاص بملابس مدنية، ورجال شرطة ببذلات رسمية يتحركون ويتجهون من مكتب إلى آخر، يخرجون، يدخلون.. اقترب قدور من شرطي وقال له:
.«أود رؤية المفتش حسن»
أشار عليه رجل الشرطة بأن يذهب للجلوس على مقعد طويل.
جر قدور حقيبته على البلاط، ونظرا لعدد الأشخاص الجالسين، طلب منهم أن يفسحوا له قليلا، وتمكن في الأخير من أن يسعد بالجلوس.
كان رجال الشرطة منشغلين جدا بعملهم . خرجت فرقة منهم من أحد المكاتب، وجاءت لتؤطر الأشخاص الجالسين على المقعد . حمل شرطي حقيبة قدور وأخذها إلى أحد المكاتب . ووضع رجال الشرطة الآخرون الأصفادَ في أيدي كل الأشخاص الجالسين هناك، وقادوهم خارج المركز، نحو سيارات الشرطة التي كانت تنتظر في الخارج . حاول قدور أن يقول شيئا. لكن شرطيا أمره بالسكوت . حاول أن يحتج، أن يرفض الصعود إلى السيارة، فتلقى ضربة قوية على ظهره . فصعد وسكت . سارت السيارة، في سكون غسق الليل إلى وجهة غير معلومة . وبعد لحظة، توقفت . ففتح أحد رجال الشرطة أبواب السيارة، وأمر الركاب بالنزول . وجد قدور نفسه أمام باب فخم سميك، هو المدخل الوحيد الموجود في سور عالٍ أحمرَ . اكتشف أخيرا وجهته: سجن مدينة ط.